اسم الکتاب : البحر المديد في تفسير القرآن المجيد المؤلف : ابن عجيبة الجزء : 1 صفحة : 110
لموسى عليه السلام: من لنا بالطعام؟ فأنزل الله عليهم المنّ والسلوى، قالوا: كيف بحر الشمس؟ فظلل عليهم الغمام، قالوا:
بم نستصبح بالليل؟ فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم، قالوا: من لنا بالماء؟ فأمر موسى عليه السلام بضرب الحجر، فقالوا: من لنا باللباس؟ فأعطوا ألا يَبْلى لهم ثوب، ولا يَخْلَق، ولا يَدْرن، وأن ينمو بنمو صاحبه، وقيل:
كساهم مثل الظفر، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
الإشارة: لما انفصلت الأرواح من عالم الجبروت، كانت على الطهارة الأصلية، والنزاهة الأزلية، عالمة بأسرار الربوبية وعظمة الألوهية، لكن لم يكن لها إلا جنة الحرية، دون جنة العبودية، فلما أراد الحق تعالى أن يمتعها بجنتين عن يمين وشمال، أمرها بالنزول إلى أرض العبودية، في ظلل من غمام البشرية، فمنَّ عليها بحلاوة المشاهدات وسلوان المناجاة، وقال لها: كلوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ من طرائف العلوم، وفواكه الفهوم، هذا لمن اعتنى بروحه فاستكمل فضيلتها، وخالف هواها، فنفذت من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، فلم تنحجب بسحب الآثار إلى نفوذ شهود الأنوار، بل غابت عن شهود الآثار بشهود الأنوار. أما من حجبت عن شهود الأنوار بالوقوف مع الآثار، ووقعت في شبكة الحظوظ والشهوات، وربطت بعقال الأسباب والعادات، فقد ظلمت نفسها، وبخست حقها من مشاهدة مولاها، حتى اتسعت عليها دائرة الحس، ولم تنفذ إلى المشاهدة والأنس. وأنشدوا:
كَمِّلْ حقيقتك التي لم تكمُلِ ... والجسمَ ضَعْهُ في الحضِيض الأسفلِ
أَتُكَمِّلُ الفَانِي وَتَتْرُك باقياً ... هَمَلاً، وأَنت بأمرِه لم تحفلِ
فالجسمُ للنفس النفيسةِ آلةٌ ... ما لَمْ تُحَصِّلْه بها لم يحْصُلِ
يَفْنَى، وتَبقى دائماً في غِبْطةٍ ... أو شِقْوةٍ وندامة لا تنْجَلِي
أعطيت جسمك خادما فخذمته ... أَتُمَلِّكُ المفضولَ رِقَّ الأفضلِ؟
شَرَكٌ كثيفٌ أنتَ في أحباله ... مادام يُمكنك الخَلاصَ فَعَجِّلِ
مَنْ يستطيعُ بلوغَ أَعْلَى مَنزلٍ ... ما بالَهُ يرضَى بأدنَى منزل!
ثم وبَّخهم على ما وقع منهم من المخالفة، فقال: